مقال | ما الذي يمكنها أن تخبرنا به الشيمبانزي عن أصول اللغة البشرية



قام العلماء بمتابعة وتصوير القردة في البريّة لمعرفة إذا ما كانوا يتحدثون إلى بعضهم، ولمعرفة بعض النقاط عن كيفية تطور اللغات لدى البشر وسبب تطورها أيضاً. حيث قام الباحثون بمراقبة كل من فرويد (Freud) وويلكي (Wilkie) والقردة الآخرين الذين يعيشون في غابات تنزانيا المشمسة.

مزي هلالي (Mzee Hilali)كان -يقف إلى جانب معدّ هذا المقال مايكل ويلسون (Michael Wilson) – وهو يأخذ الملاحظات عن سلوك القردة، حيث يعمل كمساعد ميداني منذ 30 عاماً وذلك لصالح مؤسسة جين غودال (Jane Goodall) وفجأة، صدح صوت غريب عالي اللحن من حيث اجتمع قردة آخرين لتناول طعامهم على بعد قرابة الـ100 متر. استدار هلالي ونطق بلغته الإفريقية المعروفة بالسواحلي: Nyoka وتعني الأفعى.

نزل القرد فرويد من أعلى الشجرة ومشى بسرعة بالاتجاه الذي جاء منه الصوت بينما كان ويلسون وهلالي يتبعونه، ليجدوا ثعباناً كبيراً يعرف محلياً بـ(Chatu). كان هلالي يشير إلى كتلة متشابكة من الأوراق والكروم على أرض الغابة. لم يكن الثعبان واضحاً باستثناء جزء أسود حرشفي منه.

من سنوات الخبرة الطويلة التي يتمتع بها هلالي، فقد استنتج بسرعة أنّ الصوت الذي سمعوه من مجموعة القردة كان يعني أنّهم وجدوا ثعباناً. إذاً هل يعني هذا بأنّ القردة تمتلك كلمة معينة تُرمّز للثعبان؟ وهل يمتلكون لغة خاصة بهم؟

كان هذين السؤالين محط بحث معدَ هذا المقال لمايكل ويلسون وفريق من الطلاب والمحليين التنزانيين، حيث قاموا بتسجيل أصوات القردة المختلفة وذلك للإجابة على السؤالين السابقين ولمعرفة المزيد عن كيفية تطور لغتنا ووصولها إلى شكلها المعقد الحالي.

أدلة عن منشأ لغتنا

تعد قردة الشمبانزي الأقرب للبشر ضمن شعبة الرئيسيات، حيث يتشابهون معنا في العديد من الخواص، تجدهم يصنعون ويستخدمون الأدوات، ويتجمعون في مجموعات لاصطياد الحيوانات وحماية المستعمرات بل وفي بعض الأحيان قد تجدهم يشكلون مجموعات لقتل الأعداء.

لكن مايميّز البشر عنّهم وعن كل الكائنات الأخرى هو اللغة كاملة التطور التي تمكننا من الحديث في جميع المواضيع ووضع الخطط وكذلك تسمح لنا بأن نتبادل المعارف والخبرات في حين يقتصر الموضوع لدى الحيوانات الأخرى على تواصل محدود جداً.

آلية وكيفية تطور لغتنا يعدان من أعظم الألغاز حتى الآن. وذلك لسبب بسيط يتجلى في كون الأحفوريات مصنوعة من عظام لا تتحدث لذلك علينا أن نلجأ لدراسة أنماط التواصل لدى أقربائنا في الشجرة التطورية عسى أن يقربنا هذا من معرفة المزيد عن أصول لغتنا.

إذا كان التواصل بين قردة الشمبانزي يمثل لغة خاصة بهم فسيكون من الآمن دراستها أكثر لمعرفة سبب تطور لغتنا بهذا الشكل الكبير، أمّا في حال لم يكن التواصل بينهم منظماً كلغة فهذا يعني أنّ الخطوات الأساسية في تطور لغتنا حدثت بعد افتراق نسلينا (منذ 7.9 مليون سنة).
مايكل ويلسون مع الميكروفون أثناء بحث أطروحته في حديقة كيبالي الوطنية ، أوغندا ، في انتظار الشمبانزي المعروف باسم البني الفاتح. (Becky Sun, CC BY-ND)


تسجيل الصوت ضمن الغابة

للتحقيق في تواصل القردة فيما بينها قام مايكل ويلسون وزملاؤه بتتبع القردة في الغابة أثناء ممارسة حياتهم اليومية، حيث كانوا يحملون ميكرفون يدوي مربوط إلى آلة تسجيل موجه نحو القردة بانتظار أن يقوموا بنداءاتهم.

نختار عادةً قرداً محدداً لنتبعه كل يوم لنحصل على نداءات متساوية بين الأفراد. وكذلك كان فريق الباحثون يعمل على بناء أرشيف من التسجيلات من قبل فرق بحثية أخرى قامت بالأمر نفسه منذ عام 1970 مما أدى إلى خلق أرشيف يحوي على 71 ساعة من صيحات القردة.


صيحات التنبيه من الأفاعي مثيرة للاهتمام، ولكن بسبب ندرة المواجهة بين القردة والأفاعي الضخمة يغدو من الصعب الحصول على دراسة مقارِنة منهجية لهذه الصيحات خصوصاً. لذلك قامت الباحثة كاثي كروكفورد (Cathy Crockford) وزملاؤها بتجربة مثيرة للاهتمام حيث قاموا بتشغيل تسجيل صوتي يحتوي على صيحة تحذيرية لوجود أفعى وقامت بمراقبة استجابة القردة.


وعلى عكس ندرة المواجهة بين القردة والثعابين، فهنالك موضوع آخر وهو البحث عن الطعام وتناوله، وهو أمر تقضي فيه القردة معظم يومها، وعند عثورها على الطعام تصدر همهمة خشنة إلى حد ما. قامت عالمة البيولوجيا ليزا أوبراين (Lisa O’Bryan) بدراسة هذا النوع من الصيحات وذلك لأطروحتها البحثية. وخلصت إلى أنّ هذه الصيحات تتراوح بين صيحات منخفضة اللحن وخشنة إلى نداءات عالية التواتر.

وبنفس الخصوص قام الباحثون بطرح فكرة محتملة مثيرة للاهتمام، وهي أنّ الصوت الذي تصدره القردة عند إيجاد الطعام يختلف باختلاف نوعه.

إلّا أنّ ليزا وجدت أنّ القردة يقومون بإصدار أصوات مختلفة من الهمهمة الخشنة لإعلام القردة الآخرين بأن مصدر الصوت يتناول الطعام، لا لإخبارهم بماهية الطعام. وكذلك الأمر بالنسبة لصيحات التزاوج المتذبذبة والرفيعة التي تعلن عن اقتران الذكر بالأنثى في هذا المكان. ولا يزال السبب الذي يدفع الأنثى إلى إصدار هذا الصوت عقب عملية الإقتران مجهولاً.

بفضل أرشفة المعلومات والتسجيلات التي سجلت منذ عام 1970 بات بمقدور الفريق البحثي معاينة آلاف عمليات التزاوج.

كان طوني ماسارو (Tony Massaro) وهو أحد الطلاب يقوم بمعاينة هذه البيانات وذلك في محاولة لمعرفة السبب الذي يدفع الإناث في غالب الأحيان لإصدار هذا الصوت وليس الذكور. مثل هذه الأصوات لا تمثل كلمات ولكنها تحمل أهمية كبيرة في التواصل كالعديد من الأصوات التي يصدرها البشر ولا تحتوي كلمات ضمنها كالضحك والصراخ والبكاء كذلك، هذه الأصوات تمكن المستمع من أخذ فكرة عن حالة مصدرها.

تظهر الدراسات السابقة وجود اختلاف في هذه الصيحة بين المناطق المختلفة، حيث أنّ الأصوات التي تصدرها القردة في منطقة غومبي (Gombe) تختلف قليلاً عن الأصوات التي تصدرها مثيلاتها في منطقة ماهالي (Mahale) الواقعة على بعد 160 كم من الأولى. عندما قام الباحثون بتشغيل هذا الداء لقرد من منطقة ماهالي تصرفت القردة التي سمعته من منطقة كيبالي (Kibale) وكأنّها سمعت دخيلاً مما أدى بهم إلى إصدار أصوات عالية وتقدموا باتجاه المتحدث في حال كانوا في مجموعات مكونة من 3 أشخاص أو أكثر.

أمّا في حال كانوا قرداً أو قردين فإنّهم لن يتقدموا باتجاه الصوت بل سيحافظون على هدوئهم غالباً، وفي حال تقدموا فإنّهم يتقدمون ببطء وحذر شديدين.

بالنسبة للقردة، التمييز بين العدو والصديق هو مسألة حياة أو موت مما يفسر سبب امتلاك كل مجموعة صيحة تختلف عن المجموعة الأخرى التي تجاورها. وجدت كاثي كروكفورد وزملاؤها بأنّ صيحات التعريف اللاهثة الصادرة عن مجموعات أخرى من القردة تختلف عن بعضها البعض. إذا كان هذا الاختلاف صادراً عن تعلم صوتي، فهو يماثل اللهجات في لغاتنا المعاصرة.

يعمل العديد من الطلاب والباحثين في تنزانيا على دراسة هذه الفروقات وتحليلها بمساعدة المرافقين المحليين، وذلك على أمل معرفة الفروقات بين مجموعات القردة. قد تمتلك القردة القدرة على التعلم الصوتي، لكن الصدمة تكمن في كون الاختلاف رقيق جداً في ما يتعلق باختلاف صيحات التعريف بين المناطق المختلفة.

تصدر قردة الشمبانزي العديد من الصيحات المختلفة، إلّا أنّ جميع القردة في المجموعات المختلفة المنتشرة عبر أفريقيا تصدر صيحات متشابهة مع الصيحات التي تصدر عن قردة مجموعة أخرى في نفس الظروف. مما يقود إلى فكرة أنّ هذه الصيحات تشابه صيحات الإنسان الضحك والبكاء ولا تمثل كلمات حقيقية.

تتواصل قردة الشمبانزي مع بعضها من خلال هذه الأصوات المختلفة، بطريقة تشابه الطريقة التي تتواصل بها الرئيسيات الأخرى -غير البشر- فيما بينها مما يرجح أنّ سلفنا المشترك مع القردة امتلك مجموعة أساليب تواصل صوتية (صيحات) مشابهة لهذه القردة والرئيسيات الأخرى.

الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد بأنّ التغير الجوهري في نشأة لغة الإنسان وتحولها من صيحات ضحلة المعنى إلى لغة غنية بالمعاني والرموز قد حدث عقب انفصالنا عن قردة الشمبانزي قبل 6.9 مليون عام، لأسباب ما تزال مجهولة.

المصدر

إظهار التعليقات

aDMIn